خطبة الــــشتـــــاء والنـــاس
عبد الله بن سعيد آل يعن الله
الحمد لله على فضله وإنعامه ، الحمد لله على منه وإكرامه ، الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء ، والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ، الحمد لله الملك الحق المبين أبان لعباده من آياته ما به عبرة للمعتبرين وهداية للمهتدين وحجة على المعاندين الملحدين وأشهد الا اله الا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين بيده ملكوت السموات والأراضين ، وله الحكم في الدنيا والآخرة واليه يرجع الأولين والآخرين ... وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين ، وخاتم النبيين بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين ، وقدوة للعاملين ، وحجة على الُمرسلِ إليهم أجمعين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ...
أما بعد...
لنتقي الله عز وجل ولنتبصر في هذه الأيام والليالي ... فإنها مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة حتى ننتهي إلى آخر سفرنا ... وإن كل يوم يمر بنا ... بل كل ساعة ... بل كل لحظة تبعدنا من الدنيا وتقربنا من الآخرة ، وإن هذه الأيام والليالي خزائن لأعمالنا ومحفوظة لنا شاهدة علينا بما عملنا فيها من خير أو شر ...
عنوان هذه الخطبة / الــــشتـــــاء والنـــاس
أيها المسلمون /
نعيش الآن في فصل الشتاء ، نحُسُّ بنفثات برْدِه ، نستنشق نسمات هواءه اللاذع ، نتأمل في كيفية تدرج برودته على بني البشر ، يجعلنا نتأمل ونتفكر ، آياته تترا ، حكمه لا تعد ولا تحصى ...
وما يشعر به الناس من شدة البرد بإختلاف مناطقهم ومناخهم هو نفسٌ من أنفاس نار جهنم ، ومصداق ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عندما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين ، نفس في الشتاء ونفس في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون من الحر من سمومها } [رواه البخاري ومسلم]
وهذا يذكر الإنسان في كل من فترة من عامه ، كيف أحواله مع ذهاب أيامه وأعوامه وهو في غفلة عن الموت قد انغمس في شهوات الدنيا وملذاتها ...
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل *** وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة *** وعيشك في الدنيا محال وباطل
أيها المؤمنون ...
في فصل الشتاء يلبس أكثر الناس الجوارب ، ولم يهتم بعضهم في أحكام لبسها ، بل قد يغيب ذلك عن أذهان بعض أبناء المسلمين ، وبعضهم يستجلب الرخص في تمديد فترة المسح بسب إجتماع الضرورة والمشقة مع هوى النفس على حسب اجتهاده الفردي ...
وهذا الأمر اهتم به شرعنا المطهر فأجاز المسح على الجوارب ... وحدَّ أوقات معينة للمسح عليها فجعل للمقيم يوماً وليلة - أي أربعاً وعشرين ساعة - وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن - اي اثنتان وسبعون ساعة - وتبدأ المدة من أول مسح بعد اللبس على الصحيح من أقوال أهل العلم ...
ثم يمسح بيده على مقدمة الجورب فقط من دون أن يمسح على أسفله ...
وينبغي علينا أيها الناس إذا هيئنا لأبنائنا وأهلينا الجوارب وألبسناهم إياها أن نرشدهم مع ذلك بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في ما ينبغي التعامل معها من أحكام وآداب لأن المشاهد في المدارس من بعض الطلاب لا يهتمون بأحكام المسح على الجوارب ...
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضا هو أن لا تطول مُدة لبس الجورب على الإنسان من أجل أن يحمي المصلين من رائحته الكريهة ...
فلنهتم بهذا الأمر ولنسبغ الوضوء على أعضاءنا مهما اشتد البرد ، ونسفر عن أكمامنا عند غسل اليدين فسراً كاملاً ولا نترك شيئاً من الذراع بلا غسل ...
لأن هذا الدين يرشدنا إلى التمسك بأحكامه وآدابه في طهارتنا ...
لــــمـــاذا ؟
من أجل أن تكون صلاتنا بين يدي الله صحيحة ...
يا من يسمع ويعقل ...
فصل الشتاء هو أمنية أهل السلف لأنه كما قال ابن عمر أمنية العابدين ، و قد قال ابن مسعود: ( مرحباً بالشتاء تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام ) ...
وهذه أخبار من قبلنا مع فصل الشتاء ، أما أخبار بعضنا والله المستعان فقد أطفأنا نور إيماننا بهجر قيام الليالي ، وترك صيام الأيام ...
فيا إخوتاه ... لنترك التوسع في المباحات ، ونجدّ في طلب مرضاة الرحمن في ليال الشتاء الطوال وفي غيرها ، وندرب أرواحنا مع القيام والصيام فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الذي صححه الألباني { الصوم في الشتاء الغنيمةُ الباردة } إيه وربي إنها الغنيمة فأين المشمرون المخلصون؟!
ويُحْيِي الشتاء فينا أيها المسلمون إتباع إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم إبقاء النار وما سواها مشتعلة حال النوم لما في ذلك من خطر الاحتراق، أو الاختناق. ... فقد جاء في البخاري ومسلم أن النبي قال: { إن هذه النار إنما هي عدو لكم فإذا نمتم فاطفئوها عنكم } وإرشاد الإعلام والمختصين أصله إرشاد من إرشادات الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه ...
وهنا بشرى لمن أصابته الحمى بتكفير الخطايا والذنوب ... وكثيرا ما يصاب به الناس في هذه الأيام ، وهذا توجيه نبوي من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم لأم السائب حينما قال لها ( مالك يا أمَّ السائب ؟ قالت : الحمى لا بارك الله فيها فقال : لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب خبث الحديد ) رواه مسلم
وحينما نأخذ بالإستعداد لتهيئة بيوتنا بالمدافيء والملابس الشتوية وأجود أنواع الفرش ، فإنا من جيراننا وأقاربنا وإخواننا المسلمين يجلسون جلستهم العائلية بلا مدافئ ... وترتعد أجسادهم في جنح الليالي من شدة البرد ... ويذهب أطفالهم إلى مدارسهم من غير الكساء الذي يلبسه أبناءنا وإخواننا فيخترق البرد عظامهم ...وليس ذلك إلا من قلة ذات اليد ، وقلة المحسنين الذين كانوا يتابعونهم في رمضان ثم غفلوا عنهم ...0
ونحن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ...
فلله الحمد والمنة ... لله الشكر والحمد ...
لله الحمد والمنة ... لله الشكر والحمد ...
لله الحمد والمنة ... لله الشكر والحمد ...
وهذه والله نعمة جليلة ومنحة جسيمة لا يشعر بها إلا من ذاق لسع البرد وسهر الليالي من شدة الصقيع والجوع، قال تعالى { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الاْنْعَـامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَـامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـاثاً وَمَتَـاعاً إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [النحل:80، 81].
نحن نعيش الآن في نعمة لا تقدر بثمن ... فنلبس ونغير في كل عام ... ونقتني كل واقٍ يقينا من شدة البرد ... فننام متلحفين ... ونخرج إلى مساجدنا مثل ذلك ... ويعيش بعضنا وكأنه في وسط الصيف ليس ذلك إلا من نعمة الخالق سبحانه عز وجل ... فنحبَّ للناس ما نحبُّه لأنفسنا ...فإذا مرت عليك أيها المسلم ليلة شاتية وذقت فيها البرد القارص ففررت إلى مكان دافئ وغصت بين أحضان فراش وفير أعلم حينها أن هناك من يشاركك الشعور بالبرد ولكن لا يجد وسائل الدفء ، هناك من يفترش الأرض ويلتحف السماء لا يجد له من دون الأرض مفرش ولا يجد له من البرد غطاء. ... فالأموال متيسرة عند الكثير – والثياب والألبسة الزائدة عند الكثير منَّا – لم تلبس ، ولم تنفق لمحتاجيه ... بل هي أسيرة للمستودعات أو في سلة المهملات ... ووالله أن إخوانٌ لنا في شتى بلدان العالم قد مزق البرد أوصالهم ، وأسال دموعهم ، وجمد جلودهم ، وأذاقهم الحزن الأليم ،واجتمع مع ذلك فقد الأهل والوطن ، وعدم المأوى والكساء ، فيقول أحدهم /
أتـدري كيـف قابلنـي الشتاء *** وكيف تكون فيه القرفصاء
وكيـف البـرد يفعل بالثنايـا *** إذا اصطكت وجاوبها الفضـاء
فـإن حل الشـتاء فأدفئونـي *** فـإن الشـيخ آفتـه الشـتـاء
أتدري كيف جارك يا ابن أمي *** يهــدده مـن الفقـر العنـاء
وكيـف يـداه ترتجفان بؤساً *** وتصدمـه المذلـة والشـقـاء
يصب الزمهريـر عليـه ثلجاً *** فتجمد فـي الشـرايين الدمـاء
هـذا الآدمـي بغـيـر دار *** فهل يرضيك أن يزعجه الشتاء
يجوب الأرض من حي لحي *** ولا أرض تـقيـه ولا سمـاء
معاذ الله أن ترضـى بهـذا *** وطفـل الجيـل يصرعه الشتاء
أتلقاني وبي عـوز وضـيق *** ولا تحـنو؟ فمنـا هذا الجفـاء
أخي بالله لا تجـرح شعوري *** ألا يكفيـك مـا جـرح الشـتاء
فلهم منا الدعاء الخالص ، و ليس لهم إلا الذي خلقهم ، فهو ولي المستضعفين ، وناصر المكروبين ..
قلت ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ...
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ... وبعد ...
إن أناسا لهم ثقل في هذه الحياة قد أفرطوا في ضياع أوقاتهم ، واسترسلوا في حاجة النفس إلى الترويح ... فضيعوا الأوقات ، وأصابهم فتورا عن الطاعات ... والمعروف في فصل الشتاء أن الليالي طويلة ...
وبعض من لم يقدِّر الأوقات لم يحيوا هذه الليالي ... ولم يستفيدوا من طولها سواء كان ذلك في القيام أو طلب العلم أو ما يكون له مصلحة نافعة على نفسه وأمته ...
فلو استغل الناس وقت ما بعد العشاء خصوصا ... لجنوا ثمرات عديدة في طول هذه الليالي ...
والملاحظ من بعض فئات المجتمع يتوسعون في التنـزه والخروج بحجة الدفء والترويح ... وعلى سبيل المثال تجد أن بعض الناس يذهبون إلى البراري أو إلى الأماكن الدافئة في الأسبوع مرات عديدة بحجة الترويح والدفء فتضيع عشرات الساعات من غير فائدة يستطيع أن يجنيها الإنسان في بيته ومكتبته ... والأمر الأعجب أن تفوت بعضهم صلاة الفجر بسبب الترويح والدفء ...
وأنا لست معارضا على مثل ذلك ...
لكن الإعتدال مطلوب
فلا يسوغ أن تقضى كل الأوقات في أماكن التنزه والدفء ، وتذهب الأوقات هدرا ... وهذا الكلام ليس إلا لكل من لديه إحترام للوقت ...
إذا كان يؤذيك حر المصيف *** ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيـع *** فأخذك للعلم قـل لي متى؟
وأما ذهاب العوائل أيضا للتنزه والدفء فهذا جميل ، وأمر تريده الأسرة من مسئولها لكن بعض الأسر خرجت عن إطار الضوابط التي ينبغي أن لا يغفلوا عنها ...فعند الشواطئ وفي المجمعات السكنية وفي البراري ، يغفل بعض الآباء عن أهاليهم فيقل الحياء ، ويذهب الوقار, ويختلط الحابل بالنابل، وتنطمس المروءة ، وتتبلد الأحاسيس ، وتعقد العلاقات السيئة بسبب الدفء والتنزه ...وهذا لا يرضاه أي إنسان لكن الواقع يشهد بذلك ...
فعلا شاطئ البحر وفي بعض البراري نجد بأن خيام العوائل ملتصقة ببعضها ، ونجد التحركات الكثيرة الغير منضبطة من بعض النساء ، كما تحدث الطوام العظام, والمصائب الكبار, حين ينزل النساء إلى البحر ، أو يخرجون للمشي بحجة ظلام الليل ... ولا يعلمون بأنه أصبح بالأيادي ما يلتقط الصور ويقرب البعيد ، وغير ذلك من الكثير ...
وأما في بعض المجمعات السكنية فقد ضاعت غيرة بعض الرجال وذهب أدب وحياء بعض النساء نسأل الله العافية ...
والحل أيها المسلمون أن يرسم ربَّ الأسرة ما يسعد أسرته وما ينجيها من لغط الزمان بفطنته وحذاقته ...
ومما يزيد الأسى أن تجد بعض الشباب يلهون ويعبثون ... ففي الطريق سرعة جنونية ... وعلى شاطئ البحر صخبٌ ومعاصي ... وعلى تلال الرمال تجمعات شبابية على ما لا يصدقه العقل ، وفي الجلسات مفاتيح للدخان والمسكرات ... وعجبٌ وعشق ... وإشارات إنذار تحدق على شبابنا ...
ومما يفطر الأكباد
أنك تجد شبابا في المرحلة المتوسطة أو الثانوية بين شباب يكبرونهم بعشرات السنين ليس همهم إلا الإفساد ، وتعليمهم نواقيس الخطر والإضلال ...
ومما يُحِدُّ من هذه الظواهر التي يعاشرها الناس في هذه الأيام ...
أولا ... أن يلبي الآباء حاجات أبناءهم وأهليهم من غير إفراط ولا تفريط مع مراعاة إختيار الأمكنة التي تحفظ دين الأسرة ...
ثانيا ... زراعة الوعي من الآباء والمعلمين والدعاة لدى شباب الإسلام بأثر الصحبة السيئة ، والأخطار التي يجنيها الصاحب السيئ حاضرا ومستقبلا ...
ثالثا ... فقه إنكار بعض المنكرات التي تحيط بمجتمعاتنا الشبابية والعائلية وضرورة ذلك ...
رابعا ... التواصل مع الهيئات وإدارة مكافحة المخدرات للتغلب على مروجي الحبوب والخمور على الشواطئ وتلال الرمال ...
خامسا ... التواصل الدعوي مع الشباب الذين يجلسون على البحر وعلى تلال الرمال ... فو الله أننا نسمع ونشاهد القبول والإرتياح لأهل الدعوة والنصح ، وكم من شاب كانت انطلاقته بسبب جلسة إيمانية على ساحل البحر أو على ارتفاع تلْ ...
وأبشركم بأن الأمة فيها خير كثير ، وأن ما يصيب بعض أفرادها هو النزر اليسير وحسبنا هو التوجيه والتنبيه ...
روحُ التَّفاؤُلِ في الحياةِ سبيلُنا *** وَلَوِ المهالِكُ أحدَقَتْ ومخاطِرُ
والظُّلمُ ليلٌ لا محالَةَ زَائِلٌ *** فالنُّورُ من حُلَكِ الليالي صَائِرُ
مهما ادلَهَمَّتْ دَاجياتٌ وانْتَشَت *** فالحَقُّ صَوتٌ لا محالةَ هَادِرُ
عبد الله بن سعيد آل يعن الله
الحمد لله على فضله وإنعامه ، الحمد لله على منه وإكرامه ، الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء ، والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ، الحمد لله الملك الحق المبين أبان لعباده من آياته ما به عبرة للمعتبرين وهداية للمهتدين وحجة على المعاندين الملحدين وأشهد الا اله الا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين بيده ملكوت السموات والأراضين ، وله الحكم في الدنيا والآخرة واليه يرجع الأولين والآخرين ... وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين ، وخاتم النبيين بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين ، وقدوة للعاملين ، وحجة على الُمرسلِ إليهم أجمعين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ...
أما بعد...
لنتقي الله عز وجل ولنتبصر في هذه الأيام والليالي ... فإنها مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة حتى ننتهي إلى آخر سفرنا ... وإن كل يوم يمر بنا ... بل كل ساعة ... بل كل لحظة تبعدنا من الدنيا وتقربنا من الآخرة ، وإن هذه الأيام والليالي خزائن لأعمالنا ومحفوظة لنا شاهدة علينا بما عملنا فيها من خير أو شر ...
عنوان هذه الخطبة / الــــشتـــــاء والنـــاس
أيها المسلمون /
نعيش الآن في فصل الشتاء ، نحُسُّ بنفثات برْدِه ، نستنشق نسمات هواءه اللاذع ، نتأمل في كيفية تدرج برودته على بني البشر ، يجعلنا نتأمل ونتفكر ، آياته تترا ، حكمه لا تعد ولا تحصى ...
وما يشعر به الناس من شدة البرد بإختلاف مناطقهم ومناخهم هو نفسٌ من أنفاس نار جهنم ، ومصداق ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عندما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين ، نفس في الشتاء ونفس في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون من الحر من سمومها } [رواه البخاري ومسلم]
وهذا يذكر الإنسان في كل من فترة من عامه ، كيف أحواله مع ذهاب أيامه وأعوامه وهو في غفلة عن الموت قد انغمس في شهوات الدنيا وملذاتها ...
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل *** وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة *** وعيشك في الدنيا محال وباطل
أيها المؤمنون ...
في فصل الشتاء يلبس أكثر الناس الجوارب ، ولم يهتم بعضهم في أحكام لبسها ، بل قد يغيب ذلك عن أذهان بعض أبناء المسلمين ، وبعضهم يستجلب الرخص في تمديد فترة المسح بسب إجتماع الضرورة والمشقة مع هوى النفس على حسب اجتهاده الفردي ...
وهذا الأمر اهتم به شرعنا المطهر فأجاز المسح على الجوارب ... وحدَّ أوقات معينة للمسح عليها فجعل للمقيم يوماً وليلة - أي أربعاً وعشرين ساعة - وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن - اي اثنتان وسبعون ساعة - وتبدأ المدة من أول مسح بعد اللبس على الصحيح من أقوال أهل العلم ...
ثم يمسح بيده على مقدمة الجورب فقط من دون أن يمسح على أسفله ...
وينبغي علينا أيها الناس إذا هيئنا لأبنائنا وأهلينا الجوارب وألبسناهم إياها أن نرشدهم مع ذلك بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في ما ينبغي التعامل معها من أحكام وآداب لأن المشاهد في المدارس من بعض الطلاب لا يهتمون بأحكام المسح على الجوارب ...
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضا هو أن لا تطول مُدة لبس الجورب على الإنسان من أجل أن يحمي المصلين من رائحته الكريهة ...
فلنهتم بهذا الأمر ولنسبغ الوضوء على أعضاءنا مهما اشتد البرد ، ونسفر عن أكمامنا عند غسل اليدين فسراً كاملاً ولا نترك شيئاً من الذراع بلا غسل ...
لأن هذا الدين يرشدنا إلى التمسك بأحكامه وآدابه في طهارتنا ...
لــــمـــاذا ؟
من أجل أن تكون صلاتنا بين يدي الله صحيحة ...
يا من يسمع ويعقل ...
فصل الشتاء هو أمنية أهل السلف لأنه كما قال ابن عمر أمنية العابدين ، و قد قال ابن مسعود: ( مرحباً بالشتاء تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام ) ...
وهذه أخبار من قبلنا مع فصل الشتاء ، أما أخبار بعضنا والله المستعان فقد أطفأنا نور إيماننا بهجر قيام الليالي ، وترك صيام الأيام ...
فيا إخوتاه ... لنترك التوسع في المباحات ، ونجدّ في طلب مرضاة الرحمن في ليال الشتاء الطوال وفي غيرها ، وندرب أرواحنا مع القيام والصيام فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الذي صححه الألباني { الصوم في الشتاء الغنيمةُ الباردة } إيه وربي إنها الغنيمة فأين المشمرون المخلصون؟!
ويُحْيِي الشتاء فينا أيها المسلمون إتباع إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم إبقاء النار وما سواها مشتعلة حال النوم لما في ذلك من خطر الاحتراق، أو الاختناق. ... فقد جاء في البخاري ومسلم أن النبي قال: { إن هذه النار إنما هي عدو لكم فإذا نمتم فاطفئوها عنكم } وإرشاد الإعلام والمختصين أصله إرشاد من إرشادات الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه ...
وهنا بشرى لمن أصابته الحمى بتكفير الخطايا والذنوب ... وكثيرا ما يصاب به الناس في هذه الأيام ، وهذا توجيه نبوي من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم لأم السائب حينما قال لها ( مالك يا أمَّ السائب ؟ قالت : الحمى لا بارك الله فيها فقال : لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب خبث الحديد ) رواه مسلم
وحينما نأخذ بالإستعداد لتهيئة بيوتنا بالمدافيء والملابس الشتوية وأجود أنواع الفرش ، فإنا من جيراننا وأقاربنا وإخواننا المسلمين يجلسون جلستهم العائلية بلا مدافئ ... وترتعد أجسادهم في جنح الليالي من شدة البرد ... ويذهب أطفالهم إلى مدارسهم من غير الكساء الذي يلبسه أبناءنا وإخواننا فيخترق البرد عظامهم ...وليس ذلك إلا من قلة ذات اليد ، وقلة المحسنين الذين كانوا يتابعونهم في رمضان ثم غفلوا عنهم ...0
ونحن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ...
فلله الحمد والمنة ... لله الشكر والحمد ...
لله الحمد والمنة ... لله الشكر والحمد ...
لله الحمد والمنة ... لله الشكر والحمد ...
وهذه والله نعمة جليلة ومنحة جسيمة لا يشعر بها إلا من ذاق لسع البرد وسهر الليالي من شدة الصقيع والجوع، قال تعالى { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الاْنْعَـامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَـامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـاثاً وَمَتَـاعاً إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [النحل:80، 81].
نحن نعيش الآن في نعمة لا تقدر بثمن ... فنلبس ونغير في كل عام ... ونقتني كل واقٍ يقينا من شدة البرد ... فننام متلحفين ... ونخرج إلى مساجدنا مثل ذلك ... ويعيش بعضنا وكأنه في وسط الصيف ليس ذلك إلا من نعمة الخالق سبحانه عز وجل ... فنحبَّ للناس ما نحبُّه لأنفسنا ...فإذا مرت عليك أيها المسلم ليلة شاتية وذقت فيها البرد القارص ففررت إلى مكان دافئ وغصت بين أحضان فراش وفير أعلم حينها أن هناك من يشاركك الشعور بالبرد ولكن لا يجد وسائل الدفء ، هناك من يفترش الأرض ويلتحف السماء لا يجد له من دون الأرض مفرش ولا يجد له من البرد غطاء. ... فالأموال متيسرة عند الكثير – والثياب والألبسة الزائدة عند الكثير منَّا – لم تلبس ، ولم تنفق لمحتاجيه ... بل هي أسيرة للمستودعات أو في سلة المهملات ... ووالله أن إخوانٌ لنا في شتى بلدان العالم قد مزق البرد أوصالهم ، وأسال دموعهم ، وجمد جلودهم ، وأذاقهم الحزن الأليم ،واجتمع مع ذلك فقد الأهل والوطن ، وعدم المأوى والكساء ، فيقول أحدهم /
أتـدري كيـف قابلنـي الشتاء *** وكيف تكون فيه القرفصاء
وكيـف البـرد يفعل بالثنايـا *** إذا اصطكت وجاوبها الفضـاء
فـإن حل الشـتاء فأدفئونـي *** فـإن الشـيخ آفتـه الشـتـاء
أتدري كيف جارك يا ابن أمي *** يهــدده مـن الفقـر العنـاء
وكيـف يـداه ترتجفان بؤساً *** وتصدمـه المذلـة والشـقـاء
يصب الزمهريـر عليـه ثلجاً *** فتجمد فـي الشـرايين الدمـاء
هـذا الآدمـي بغـيـر دار *** فهل يرضيك أن يزعجه الشتاء
يجوب الأرض من حي لحي *** ولا أرض تـقيـه ولا سمـاء
معاذ الله أن ترضـى بهـذا *** وطفـل الجيـل يصرعه الشتاء
أتلقاني وبي عـوز وضـيق *** ولا تحـنو؟ فمنـا هذا الجفـاء
أخي بالله لا تجـرح شعوري *** ألا يكفيـك مـا جـرح الشـتاء
فلهم منا الدعاء الخالص ، و ليس لهم إلا الذي خلقهم ، فهو ولي المستضعفين ، وناصر المكروبين ..
قلت ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ...
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ... وبعد ...
إن أناسا لهم ثقل في هذه الحياة قد أفرطوا في ضياع أوقاتهم ، واسترسلوا في حاجة النفس إلى الترويح ... فضيعوا الأوقات ، وأصابهم فتورا عن الطاعات ... والمعروف في فصل الشتاء أن الليالي طويلة ...
وبعض من لم يقدِّر الأوقات لم يحيوا هذه الليالي ... ولم يستفيدوا من طولها سواء كان ذلك في القيام أو طلب العلم أو ما يكون له مصلحة نافعة على نفسه وأمته ...
فلو استغل الناس وقت ما بعد العشاء خصوصا ... لجنوا ثمرات عديدة في طول هذه الليالي ...
والملاحظ من بعض فئات المجتمع يتوسعون في التنـزه والخروج بحجة الدفء والترويح ... وعلى سبيل المثال تجد أن بعض الناس يذهبون إلى البراري أو إلى الأماكن الدافئة في الأسبوع مرات عديدة بحجة الترويح والدفء فتضيع عشرات الساعات من غير فائدة يستطيع أن يجنيها الإنسان في بيته ومكتبته ... والأمر الأعجب أن تفوت بعضهم صلاة الفجر بسبب الترويح والدفء ...
وأنا لست معارضا على مثل ذلك ...
لكن الإعتدال مطلوب
فلا يسوغ أن تقضى كل الأوقات في أماكن التنزه والدفء ، وتذهب الأوقات هدرا ... وهذا الكلام ليس إلا لكل من لديه إحترام للوقت ...
إذا كان يؤذيك حر المصيف *** ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيـع *** فأخذك للعلم قـل لي متى؟
وأما ذهاب العوائل أيضا للتنزه والدفء فهذا جميل ، وأمر تريده الأسرة من مسئولها لكن بعض الأسر خرجت عن إطار الضوابط التي ينبغي أن لا يغفلوا عنها ...فعند الشواطئ وفي المجمعات السكنية وفي البراري ، يغفل بعض الآباء عن أهاليهم فيقل الحياء ، ويذهب الوقار, ويختلط الحابل بالنابل، وتنطمس المروءة ، وتتبلد الأحاسيس ، وتعقد العلاقات السيئة بسبب الدفء والتنزه ...وهذا لا يرضاه أي إنسان لكن الواقع يشهد بذلك ...
فعلا شاطئ البحر وفي بعض البراري نجد بأن خيام العوائل ملتصقة ببعضها ، ونجد التحركات الكثيرة الغير منضبطة من بعض النساء ، كما تحدث الطوام العظام, والمصائب الكبار, حين ينزل النساء إلى البحر ، أو يخرجون للمشي بحجة ظلام الليل ... ولا يعلمون بأنه أصبح بالأيادي ما يلتقط الصور ويقرب البعيد ، وغير ذلك من الكثير ...
وأما في بعض المجمعات السكنية فقد ضاعت غيرة بعض الرجال وذهب أدب وحياء بعض النساء نسأل الله العافية ...
والحل أيها المسلمون أن يرسم ربَّ الأسرة ما يسعد أسرته وما ينجيها من لغط الزمان بفطنته وحذاقته ...
ومما يزيد الأسى أن تجد بعض الشباب يلهون ويعبثون ... ففي الطريق سرعة جنونية ... وعلى شاطئ البحر صخبٌ ومعاصي ... وعلى تلال الرمال تجمعات شبابية على ما لا يصدقه العقل ، وفي الجلسات مفاتيح للدخان والمسكرات ... وعجبٌ وعشق ... وإشارات إنذار تحدق على شبابنا ...
ومما يفطر الأكباد
أنك تجد شبابا في المرحلة المتوسطة أو الثانوية بين شباب يكبرونهم بعشرات السنين ليس همهم إلا الإفساد ، وتعليمهم نواقيس الخطر والإضلال ...
ومما يُحِدُّ من هذه الظواهر التي يعاشرها الناس في هذه الأيام ...
أولا ... أن يلبي الآباء حاجات أبناءهم وأهليهم من غير إفراط ولا تفريط مع مراعاة إختيار الأمكنة التي تحفظ دين الأسرة ...
ثانيا ... زراعة الوعي من الآباء والمعلمين والدعاة لدى شباب الإسلام بأثر الصحبة السيئة ، والأخطار التي يجنيها الصاحب السيئ حاضرا ومستقبلا ...
ثالثا ... فقه إنكار بعض المنكرات التي تحيط بمجتمعاتنا الشبابية والعائلية وضرورة ذلك ...
رابعا ... التواصل مع الهيئات وإدارة مكافحة المخدرات للتغلب على مروجي الحبوب والخمور على الشواطئ وتلال الرمال ...
خامسا ... التواصل الدعوي مع الشباب الذين يجلسون على البحر وعلى تلال الرمال ... فو الله أننا نسمع ونشاهد القبول والإرتياح لأهل الدعوة والنصح ، وكم من شاب كانت انطلاقته بسبب جلسة إيمانية على ساحل البحر أو على ارتفاع تلْ ...
وأبشركم بأن الأمة فيها خير كثير ، وأن ما يصيب بعض أفرادها هو النزر اليسير وحسبنا هو التوجيه والتنبيه ...
روحُ التَّفاؤُلِ في الحياةِ سبيلُنا *** وَلَوِ المهالِكُ أحدَقَتْ ومخاطِرُ
والظُّلمُ ليلٌ لا محالَةَ زَائِلٌ *** فالنُّورُ من حُلَكِ الليالي صَائِرُ
مهما ادلَهَمَّتْ دَاجياتٌ وانْتَشَت *** فالحَقُّ صَوتٌ لا محالةَ هَادِرُ